الحمد لله ذى القوة المتين .
والصلاة والسلام على النبي الأمين .
وعلى موكب الهدى من إخوته الأنبياء والمرسلين.
المواطـنون الشـرفـاء :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
تحيةً ملؤها العزّة والكرامة ، ومبعثها التقدير لجموع شعبنا الأبيّ في هذا اليوم الخالد من أيام بلادنا...
اليوم الذى يعتلى مفرق الزمان ، ليشهد على جهاد أبناء هذا الوطن وتضحياتهم في سبيل التحرر والانعتاق...
اليومٍ الذى نخصُّه بالإحتفاء ، ونفرده بالذكرى ، ونعلي قدره بالتدبُّر والاعتبار...
اليومٍ الذى يبقى في كتاب تاريخنا ملحمة جمعت بين السيف والقلم ، وآخت بين الشماليّ والجنوبي ، واصطف فيها الرجال والنساء ، والشيب والشباب ، جنباً إلى جنب ، فتكاملت لها شروط النجاح الأوفر .. وها نحن نعهد هذا اليوم في مسار حاضرنا : حافزاً على الجدّ والاصطبار ، ونحمله في وعد مستقبلنا أملاً بالتوحد ، وبشرى بالانتصار الأبلج .
إنه عيد استقلالنا الذي يحق لنا أن نفاخر فيه بموكب متصل من الشهداء ، لا انقطاع لمسيرة عنفوانه بين أمس واليوم ، فستبقى راية الفداء خفّاقة ، بمشيئة الله ، حتى يكتمل بدر الاستقلال : أمناً ونماءاً وتوحداً... فلم تكن الثورات والانتفاضات المتوالية فى وجه المستعمر الغاصب ، حين انتظمت شرق بلادنا وغربها وشمالها وجنوبها ، إلا تأكيداً لحقيقة وحدة هذا التراب ، بتنوع أهله الثري ، وتعدُّد موارده الموفور .. ولم تكن تلك الثورات والانتفاضات إلا تجسيداً للقدرة على انتزاع حق الحياة الحرة الشريفة ، حين شعّ فى قلوب الثائرين نور اليقين ، واتضح لهم جلال المبتغى ، فنهضت نفوسهم الكبار بأداء الواجب ، كفاءاً لنداء الوطن وحقه على أبنائه فى الذود عن حياضه.
ولسوف تبقى ملحمة استقلالنا بين ملاحم استقلال الأمم ، فريدة فى منطقلها ، ومسارها ، ومختتمها .
فلقد انطلقت - يوم انطلقت – مستندةً إلى إرثٍ تليد فى الجهاد والاستعداد ، شهد الغزاة – فى غير ما مرةٍ – بصلابته ودقَّته ، وكانت تلك إشارة إلي عراقة الدولة والنظم ، على أرضٍ ترعرعت فوق أديمها الحضارات ، ولسوف تبقى – بمشيئة الله– مهاداً لها .
أما على امتداد المسار ، فقد جسّدت ملحمة الاستقلال قدرةً عالية ً فى نفوس الوطنيين ، على المواءمة بين الهدف المنشود – بعظمته ورفعته – وبين الواقع المعاش – بتقلُّباته وتعقيداته – فاتسقت الرؤية لديهم : جهاداً بالدماء ، وجهاداً بالسياسة ، ليأتى ختام فصول هذه الملحمة الفريدة ، حاملاً ملامح المنهجين ، اللذين لا يكتمل عملٌ وطنىٌ دون المزواجة بينهما .. فكان أن ارتفع العلم فوق سارية الأول من يناير عام 1956 ، إشهاراً لنجاح تلك الرؤية المتسقة.
ذاك صوت الماضى .... أيها الأخوة الكرام ... عاصرته أجيال ، وأدركت ظلاله أجيال .. ومن حق الجيل الناشئ من شبابنا أن يسمع منّا هنا كلمةً تربط ماضيه بمستقبله ، فتنير له القادم من أيامه ، وترسخ لديه ضرورة التصالح مع المستقبل دون إغفال لتجارب الآباء ، إنه منهج ( الأصالة والمعاصرة ) ، الذى نريد لشبابنا أن يختطوا به طريقاً إلى العلا ، فمن لا ماضى له ، لا مستقبل له ، ومن يرهن المستقبل اكتفاءً بشرف الماضى ، فهو أجدر أن يضيّع كليهما ، فيصبح كالمنبت : لا أرضاً قطع ، ولا ظهراً أبقى .
المواطنون الشـرفـاء ...
وإننا إذ نحتفل بهذه الذكرى العطرة في ذات الأوان الذى نتهيأ للاحتفال فيه بعيد السلام ، فإن وراء ذلك من المعاني والإشارات ما يجعله عيداً واحداً لا عيدين ، فقد ظل الاستقلال في قلوبنا وأعيننا ، ردحاً من الزمان ، كالحلم المنقوص : يفتقر إلى السلام ويتطلّع إليه .. فيحق لنا أن نباهي اليوم ، ونقول إن ما حققناه على درب السلام الوعر ، هو بكل المقاييس ، إنجازٌ متفرّدٌ ، يقف شاهداً على اليقظة والإدراك ، كما يقف شاهداً على قوة الإرادة ، والتعالي عن الصغائر ، والاعتداد بالوطن الحبيب ، بل يقف ، قبل كل ذلك ، وبعده ، شاهداً على توفيق الله الكبير ، الذى خصّ ذاته العلية بالسلام : اسماً وصفة.
ولهذا كله ، أجدها سانحة موافقة لأؤكد من جديد ، أن سلاماً بهذى المعاني السامقة ، لن نرهنه لكيد كائد ، ولن ندخر في سبيل صونه غالياً ، ولن نلتفت فيه إلى من يحاولون خداعنا كى لا نبلغ بالأمر غايته ، أولئك الذين ظلوا بإفكهم وتربصهم يترقبون نكوصاً منا عن دربه ، فمضوا يزايدون على ما يعترض الاتفاق من تحديات وعقبات ، غافلين عن حقيقة صادعة ، مفادها أن كل عملية سلمية - مهما صغرت - تبقى محفوفة ، في بداياتها ، بالمخاوف والأهوال ، فما عرف التاريخ - قط - طريقاً للسلام مفروشة بالورود والرياحين ، وإنما للسلام أن يعبّد لنفسه بنفسه سبيلاً يبلغ بها مرافئ غاياته ، وما أجلّها من غايات .
ولا نملك إلاّ أن نقول لأولئك المتربصين ، إن تجربة السلام الناهضة في بلادنا -برغم ما يلوح بها من منغصات نعرف منشأها ونتحسب لمآلاتها - هى تجربة - الصدق مع الذات ...
وهى صولة العدالة وإحقاق الحق ...
وهى وقفة الشجعان ، حين لا يبقى إلاّ وقفة الشجعان فيصلاً بين العبور الكريم والتردد الماحق.
لذا نعاهدكم بأن يكتمل عقد السلام - بمشيئة الله - ليكون حقاً سلاماً شاملاً ، فتهنأ به - عن قريب - ربوع دارفور الحبيبة ، وأهلها الصابرون الكرماء ، رعاة نار القرآن وحداة المروءة . فها هى الخطى تمضي حثيثاً صوب المفاوضات المرتقبة الشاملة فى الدوحة ، برعايةٍ مباركةٍ من دولة قطر الشقيقة ، وبدعمٍ متصل من الاتحاد الأفريقي والجامعة العربية ، بينما تتكامل جهود دولية مقدرة على ذات المسار ، وصولاً لحلٍّ سلمى نهائي للأزمة فى هذا الجزء الحبيب من أرض بلادنا ، لا سيما أن العالم كله – إلا قليلاً من الآثمين – قد أدرك حقيقة الموقف اليوم ،إذ ولت الحرب إلى غير رجعة ، ولم يتبق سوى تفلتات أمنية بوسع المفاوضات أن تضع حداً لها ... فالسلام فى دارفور – بحول الله – آتٍ لا محالة مصحوباً بتوجُّهٍ تنموي غامر ، يحيى موات الأرض ، ويستنهض طاقات المواطنين ، ويشيع روح التآزر ، ويقطع دابر العصبيات، لتعود دارفور كما عهدها الناس والزمان : منطلقاً لمحمل الخير يعُّم بكرمه البعيد قبل القريب .
المواطـنون الـشرفـاء :
وإنها لمن البشريات أن يبلغ الوعد تمامه ، فتكون أبلغ دلائل النجاح والصدق ، أن يكتمل أمد الفترة الانتقالية بسنواته الخمس ، ليستشرف الوطن الحبيب أغلى أقداره منذ الاستقلال ، عهداً جديداً مؤسساً على الاختيار الحر ، ملتزماً به ، وناهضاً بحقه : تأكيداً وترسيخاً .. فها هى الأيام تمضى صوب إجراء الانتخابات بعد إذ فرغ المواطنون من عملية التسجيل ، ولن يمضى وقت طويل حتى يحين استحقاق الاستفتاء ، فيقول فيه الاختيار الحر كلمته الفصل ، دون إملاء ، وإن الرجاء ليحدونا – متدرعاً بالعزم – أن تكون الوحدة ، هى ثمرة السلام وجائزته الكبرى ، لهذا سوف يكون عامنا هذا – بمشئية الله – عاماً لتعزيز الثقة بأقصى طاقاتها ، ولا يخفى على أحدٍ أننا قد اجتزنا فى الأيام القليلة الماضية ، تحديات جساماً ، خلصنا منها إلى اتفاقاتٍ عادلة بشأن القوانين الممهدة لأجواء الاختيار الحر ، فإن جاءت الوحدة – وفاقاً لذلك – تعبيراً عما نتطلع إليه ، فانما نريدها :
وحدةً تكافئ مابذل فى سبيلها من جهود ..
وحدة شعارها ومبتغاها الطمانينة والنماء لوطننا ..
وحدةً يتساوى فيها المواطنون : حقوقاً وواجباتٍ..
وحدةً رسالتها الخير لنا ولسوانا من بنى الأنسان ، ليستمر عطاء وطننا فى محيطيه الاقليمي والدولي .. عطاءاً لم ننعزل فيه عن التواصل مع التطورات العالمية – حتى فى أحلك ظروفنا – تأثيراً فيها وتأثراً بها .. دون أن تصدَّنا ثارات الماضي ولا مؤامرات الحاضر عن أن نمد يداً بيضاء واثقةً ، تتجاوز الإحن والضغائن فى سبيل إعمار الأرض وخير أبنائها ، ولن نستنكف أبداً عن التجاوب مع كل دعوات الإصلاح فى بنية المجتمع الدولى ، بما يكفل الخروج من نفق الظلمات الذى قاد البشرية اليه فساد الرأى وشح النفوس وحب الانفراد والاستئثار ، بلى ، سنتقدم غير هيّابين ، مع كل من ينشد العدل والأمان والرفاه للعالمين .
نقول هذا ونحن نعلم أن ما بلغناه لم يكن هيّناً ، فقد تداعت علينا ظروفٌ قواسية ، واجهناها بأشرس منها عزماً ومضاءاً ، وإن نظرة سريعة إلى كتاب الإنجاز ما بين العيد الثالث والخمسين للاستقلال ، وهذا العيد الرابع والخمسين ، لتكشف عن سجل وضئ يحق لنا أن لا نبخس عنده جهودنا ، فقد شهد العام ، غضبة هذا الشعب وهو يلقّن المرجفين دروساً في الإباء والوطنية حين حاولوا المساس بسيادته ، فى تأكيد منه لقيم الاستقلال ، كما شهد العام افتتاح مشروع سد مروى العظيم ، بما حمله من إشارات ناطقة بالاكتفاء والاستقلال الاقتصادي ، هذا بجانب افتتاح مصنع طائرات الصافات ، وافتتاح عدد من الجسور الكبرى ، وانطلاق مشروعات النهضة الزراعية ، التى نجدد بها مبدأ لا نمل ترداده ، وهو أن من لا يملك قوته لا يمكنه صون استقلاله ... وإن الوعد ليمضي هذا العام بمزيد مما يسعد أبناء هذا البلد الأشمّ ، وفاءاً لاصطبارهم ، وتصديقاً لآمالهم .. (وقل أعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون).
صدق الله العظيم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته